جمال بولباز:الحوار الاجتماعي المغربي

 


مقال رأي: الصحفي جمال بولباز 

عرفت الحياة السياسية المغربية نقلة نوعية بعد الانتخابات التشريعية الاخيرة، كانت ابرز سماتها تشكل افق جديد في الممارسة السياسية وتدبير الشأن العام، ترجم واقعيا بالعقاب الشعبي لحزب العدالة والتنمية قائد ولايتين تشريعيتين وحكومتين، وواضعا بذلك حدا لمرحلة وبداية لاخرى.

انها لحظة محورية في العملية الديمقراطية عبر خلالها الشعب المغربي عن نضج سياسي منقطع النظير، وبأنه قادر على ارجاع كل حزب الى مقامه.

فكان من الطبيعي ان يثير هذا الحدث نقاشا سياسيا، هادئا احيانا ومتشنجا عاطفيا احيانا اخرى، كانت المسألة الاجتماعية في صلب هذا النقاش، خصوصا مع بدء الحكومة اولى جلسات الحوار الاجتماعي.

وكمساهمة مني في مقاربة هذه المسألة، انطلق من تدبير حكومتي العدالة والتنمية للحوار الاجتماعي طيلة العشر سنوات السابقة، لأقف على حجم التناقض بين ماكان يدعو له هذا الحزب نظريا وما سار في تطبيقه واقعيا، سميته هنا ب(عقدة الحوار الاجتماعي)

لأصل الى استراتيجية حكومة الأحرار في تدبير هذه المسألة، مبينا كيف تصدت هذه الحكومة في الاشهر الأولى من عمرها للمسألة الاجتماعية، وسميتها هنا ب(جرأة الحوار الاجتماعي)

1/عقدة الحوار الاجتماعي لدى حكومة العدالة والتنمية

لعلنا نتذكر جيدا التزايد الكبير في حدة الاحتقان الاجتماعي في ظل حكومة العدالة والتنمية الاولى، التي كانت قد اغلقت كل قنوات الحوار مع المركزيات النقابية، مقابل فرض قرارات انعكست سلبا على القدرة الشرائية للمواطنين، كان ابرزها تحرير اسعار المحروقات بعد رفع دعم صندوق المقاصة عنها. وبذلك تكون حكومة عبد الاله بن كيران -ولأول مرة في تاريخ المغرب- ساهمت بهذه القرارات في توحيد المركزيات النقابية وخوضها اضرابات وطنية شاركت فيها جميع النقابات باستثناء نقابة حزب العدالة والتنمية.

وقد بررت النقابات انذاك دخولها في خطوات تصعيدية بتجاهل الحكومة لمضامين اتفاق 26 ابريل 2011 الذي وقعته حكومة عباس الفاسي، والذي اسفر حينها عن مكتسبات ايجابية للطبقة العاملة.

لكن مع تنصيب حكومة بن كيران قررت هذه الاخيرة وقف تفعيل الاجراءات المنصوص عليها في هذا الاتفاق، وبذلك توقفت عجلة الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية وعادت جلسات الحوار التي دشنتها حكومة عباس الفاسي والتي توجت باتفاق 26 ابريل الى نقطة الصفر.

ولعل للمنطق الخاطئ لرئيس الحكومة عبد الاله بن

كيران للعمل النقابي  وللتظاهرات العمالية الاثر البارز في هذا التباعد، حيث علق ذات مرة خلال احدى جلسات المساءلة الشهرية بمجلس المستشارين على المسيرة التي نظمتها النقابات بالدار البيضاء، بطريقة تهكمية مقللا من اثرها بقوله 《آش وقع، هناك مشاركون ذهبوا الى البحر والبعض الاخر ذهب الى الغابة》 انه {سوء الفهم الكبير} الذي يلخص تبخيس رئيس الحكومة للعمل النقابي.

ثم جاءت رئاسة سعد الدين العثماني للحكومة الثانية بقيادة حزب العدالة والتنمية، فاخلف بدوره الموعد، وبقيت خطاباته {مجرد خطابات فارغة}، بالنظر الى الوعود التي قدمتها الحكومة للمغاربة بخصوص الاصلاح الاقتصادي والزيادة في الاجور. وذلك بسبب غياب الارادة السياسية للاستجابة للمطالب المتضمنة في الملفات المطلبية للمركزيات النقابية، لمسنا ذلك انذاك في بيانات هذه النقابات التي اجمعت على ان الاوضاع الاجتماعية للشغيلة المغربية صارت مقلقة جراء السياسات العمومية الفاشلة بالاضافة الى عجز الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية عن تقديم بدائل للمعضلات الاجتماعية القائمة.

فكان الشعب هو الذي يؤدي الثمن، ويتحمل المعاناة ويكابد مخلفات السياسات (الاصلاحية) لهذا الحزب،

لكن اي اصلاح؟ انه اصلاح الاحوال المادية لقيادات الحزب {وبالمناسبة فابن كيران مافتئ يعترف بذلك دون أدنى خجل}

2/جرأة الحوار الاجتماعي لدى حكومة الاحرار

بإرث ثقيل للحكومتين السابقتين تحملت الحكومة الجديدة بقيادة حزب التجمع الوطني للاحرار، الحاصل على المرتبة الاولى في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، مسؤولية تنفيذ برنامجها ذي الطابع الاجتماعي بالاساس، في سياق دولي متأثرا بتداعيات الجائحة وبالتجاذبات الدولية اللامستقرة، وذلك بهدف امتصاص ارتدادات موجة الغلاء العالمية من جهة وتجاوز تبعات عشر سنوات من التدبير اللاجتماعي واللاشعبي لحزب العدالة والتنمية.

فاستنفرت حكومة اخنوش كافة الموارد المتاحة والممكنة لتنزيل اصلاحات جذرية في القطاعات الاستراتيجية بشراكة مع مختلف الفاعلين السياسيين والنقابيين.

ولابد هنا ان نستحضر حدثا محددا قد يسهل علينا فهم خلفيات الكثير من الجدالات التي تثيرها بعض الاقلام المقللة من حجم الخطوات الاصلاحية لهذه  الحكومة، وهو ما اسفرت عنه نتائج الانتخابات المهنية الاخيرة من تراجع لنقابة الاتحاد الوطني للشغل (UNTM)

الذراع النقابي لحزب العدالة والتنمية افقدتها صفة النقابة الاكثر تمثيلا لعدم تجاوزها عتبة 6% من نتائج الانتخابات، الامر الذي يخرجها قانونا من دائرة النقابات التي يحق لها الدخول في الحوار الاجتماعي مع الحكومة.

فكان من الطبيعي والحالة هاته ان تصب هذه النقابة جام غضبها على هذا الاتفاق، الا ان ذلك لا يحجب حقيقة ان برنامج هذه الحكومة جاء بهدف انجاز انعطافة تاريخية نحو استعادة الدور الفعلي للحكومة في معالجة الاختلالات الاجتماعية بتدابير قوية وبحجم مالي غير مسبوق لدعم النسيج الاقتصادي ولتحقيق الحماية الاجتماعية الشاملة فتصدت للمسألة الاجتماعية بقوة وشجاعة وفق التوجيهات الملكية السامية وذلك للتصالح مع مكونات الشعب المغربي ولردم الهوة الاجتماعية.

وقد بدأت الحكومة فعليا اولى جلسات الحوار  وفق مقاربة تشاركية بهدف تجاوز سوء حالة الفهم، الذي اكتنف الحوار الاجتماعي سابقا وافساح المجال لحوار مسؤول لجميع الاطراف المعنية بالمسألة الاجتماعية، بعيدا عن الصراعات الهامشية التي اهدرت الزمن التنموي للمغاربة، ودون التباهي بالقاعدة الشعبية والخوض في السجالات العقيمة التي طغت على الحياة

السياسية سابقا.

وعلى الرغم من الاهمية القصوى لمخرجات هذا الحوار الذي ترأسه السيد رئيس الحكومة، همت بالاساس الزيادة في الحد الادنى للاجور في القطاعين العام والخاص وحذف السلم السابع بالنسبة للموظفين من فئة المساعدين التقنيين والمساعدين الاداريين ورفع حصيص الترقي ومنح اجازة الابوة …، الا انه يبقى {في نظري} اهم مستجد في هذا الاتفاق هو مأسسة الحوار الاجتماعي من خلال التوقيع على 《ميثاق مأسسة الحوار الاجتماعي》الذي يتضمن إحداث مرصد للحوار الاجتماعي واكاديمية في مجال الشغل تتكلف بالتكوين المستمر والرفع من قدرات الاجراء.

كما يتضمن هذا الميثاق هيكلة الحوار الاجتماعي عبر احداث لجنة عليا يرأسها رئيس الحكومة وتتكون من الامناء العامين للمركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب مع عقد لقائين في السنة للاستماع الى الملاحظات والمقترحات الممكنة حول مشروع قانون المالية ولتبادل وجهات النظر وإيجاد حلول لمشاكل الشغيلة.

انها بالفعل فلسفة جديدة للحوار الاجتماعي تتجاوز طابع اللقاءات المناسباتية والموجهة للاستهلاك الاعلامي، انها فلسفة قائمة على المصارحة والتواصل

الدائم والاشراك القبلي لممثلي العمال والموظفين بل وجعل هذا الاشراك مستداما وممأسسا باعتباره لبنة اساسية في ترسيخ البناء الديمقراطي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي المنشود وهذا ما يلخصه السيد رئيس الحكومة في هذا اللقاء  حين قال 《ان هذه الجلسة الاولى تأتي بهدف الشروع في التفكير الجدي والمسؤول في كيفية مأسسة الحوار الاجتماعي ليكون عقده ملزما ومنتظما》

بهذا التوجه المستشرف لحاجة البلاد لمعالجة قضاياه الاجتماعية آنيا لاسيما في هذا الظرف الاستثنائي الذي تفرضه تداعيات الوباء وشح الامطار وواقع السوق الدولية … تكون هذه الحكومة قد نجحت في تغليب المصلحة العليا للوطن وجعله فوق كل اعتبار.



طانطان 24