أية ثقافة تجعل من نفسها قاعدة لمنظومة الفساد ؟.



 بقلم: الأستاذ إبراهيم الناية /مدرس سابق لمادة الفلسفة 


عندما كنا نسمع كلمة الثقافة يتبادر إلى اذهاننا حضور العلم والمعرفة ، والاصطفاف إلى جانب الحق والعدل والدفاع عن مصالح الشعوب لتتحرر من التبعية وتمارس حقها في الحرية واستقلال الإرادة ، وما كان يخطر على البال خصوصاً في المجتمعات التي كانت تعيش تحت وطأة الاستعمار ،أن نرى أنماطا ثقافية شغلها الشاغل هو التنظير للفساد والاستبداد والدفاع عنهما ، باعتبارهما. ضرورة مجتمعية تقتضيها الواقعية ، وهذا يدل أن هناك انقلابا حصل في المفاهيم وتم الترويج لها داخل الحقل الثقافي رغم أنها لا تنتمي إلى طبيعة الثقافة أصلا. فإذا كانت الثقافة من جملة ماترمز إليه: القراءة الواعية والمواقف التحررية التي تسير عكس تيار الجهل والتخلف فهي كذلك تعمل على تبيان وتحديد مفهوم الوعي الزائف والمواقف المخزية. ومن هذا المنطلق يقتضي الاقرار أن هناك نوعين من الأفكار: أفكار بانية تدعو إلى التحرر والانعتاق وتهدف إلى تحقيق كرامة الإنسان والاعتراف له بإنسانيته وآدميته وحقوقه. وفي المقابل هناك افكار تخريبية تدعو إلى الميوعة والسقوط وطمس هوية الإنسان وجعله شيئا من أشياء الاستهلاك وبضاعة تباع وتشترى وتقدر قيمتها بسعر. وعلى هذا الأساس يمكن أن نتساءل: ماذا نعني بالفساد ؟ وبأي معنى يمكن اعتبار الثقافة التي هي وعاء لمنظومة الفساد والاستبداد ثقافة ؟. وماهي أهداف هذا النمط الفكري المؤيد للفساد وأتباعه ؟وكيف يمكن التعامل معه ؟.

إن الفساد اجمالا هو كل تفكير أو سلوك أو ممارسة تتناقض مع منهج الحق الإلهي وهذا يعني أنه كلمة عامة يشمل معناها كل جوانب حياة الإنسان ولا يقتصر على جانب دون آخر ، فهناك الفساد الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، فهو بذلك لا شكل له أو لون ،وإنما يتلون وفق المعطيات التي تجعله كذلك ، فلا فرق بين ناهبي الأموال أو آخذي الرشوة او الممارسين للظلم ، أو الذين لا يقومون بالواجب ،او الداعيين إلى العلاقات الرضائية وممارسة الرذائل الأخرى ، فهذه الأمور كلها وجوه متعددة لأمر واحد ولذلك ينبغي وضعها في سلة واحدة ، ومن ثم إن الفساد يحتاج إلى ركيزة يتكئ عليها من أجل تمرير أفعاله ومفاهيمه ومشارعه.

يقوم فكر منظومة الفساد على مبدأ حيوانية الإنسان وأن الحياة تتأسس على البعد المادي الذي يتجه نحو الماديات وليس له بعد آخر ، ويعتبر مبدأ الغاية تبرر الوسيلة من مبادئه الأساسية وبذلك يكون الهدف هو عملية الاشباع الجسدي.وعليه إن المنظرين لهذا التوجه لا يعترفون بالقيم الأخلاقية ولا بأي شيء ينتمي إلى عالم المروءة والكرامة الإنسانية ، وقد نصبوا أنفسهم محامين ومدافعين عن منظومة الفساد ويبحثون عن المبررات التي تجيز ممارسات اصحابها.

وللتذكير فقط إن ثقافة الفساد كانت هي اليد اليمنى للاستعمار متمثلة في عقلية اتباعه يعبرون عنها بعد رحيله ، وتتجلى ممارساتهم في الدجل والعهر السياسي واقصاء الآخرين ، ويوظفون في ذلك كل مهاراتهم من أجل أن تسود هذه الثقافة وتتمكن. فعندما تصبح الثقافة منظرة للفساد ومبررة لوجوده ومدافعة عن أسلوبه وممارساته في الحياة فقد غابت شمس الحقيقة ولم تعد تلك ثقافة ، وإنما هي الارتزاق بعينه ولكنه يرتدي لبوس الثقافة.

وإذا كان الأمر هكذا فماهي أهداف منظومة الفساد وثقافة البؤس التي تدافع عنها ؟.

إن أول هدف لمنظومة الفساد ومنظريه هو تخريب المجتمع من الداخل لتسهل السيطرة عليه ولكي لا تبقى هناك أصوات تنغص عليه سعيه لأن مشروعه قائم على قتل روح الكرامة الانسانية في ذاتية الإنسان حتى لا تستيقظ الشعوب من سباتها ، بل يسعى الفساد جاهدا إلى تبليد احساسها لتختلط عليها الأوراق وعليه إن الذين يحاربون القيم الأخلاقية ويسعون إلى التفريط في ذاتية الأمة وكينونتها هم بمثابة وكالة أمنية تنوب عن الإستعمار الغربي هدفها تدمير وعي الأمة بتاريخها وحضارتها.

لكن هل بثقافة الفساد والاستبداد يمكن الإقلاع نحو النمو والبناء الحضاري ؟.

فلقد ثبت أنه لا يمكن الإقلاع نحو النمو ونحن نفكر بعقلية الفاسدين ، ولا يمكن أن نقلع عن الفساد إلا إذا كان لدينا فكر مستقيم قائم الذات له رؤيته ومفاهيمه وله ارضيته التي ينطلق منها مناقضة بالاساس لمفاهيم ثقافة الفساد. إن الفساد الذي تأسس على إبعاد العلم والقيم الأخلاقية من مجاله لا يمكن احداث القطيعة معه إلا بوجود ثقافة تغييرية وتحررية ترفض كل مفاهيمه ورؤيته للحياة وتؤسس منظومتها الفكرية على الإستقلالية والقراءة الواعية لمفاهيم الوجود والمجتمع ،وتواجه ثقافة التبعية والاقصاء وترفض الوصاية والتفكير بعقل الآخر. 

إن الثقافة مفهوم مرتبط بذاتية الإنسان وبمفاهيمه للحياة ،فالطريقة التي نتكلم بها هي الطريقة التي نفكر بها ، فطريقتنا في الكلام هي طريقتنا في التفكير. فإذا كان هناك خطاب راقيا فإن المجتمع اصبح ناميا ،ولذلك يصدق قول احدهم : " إن التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة". ولذلك لايمكن للتنمية أن تتحقق ونحن نفكر بعقلية الفساد ، فلا بد من صياغة بنيات المجتمع على أساس من العلم والإيمان. وعلى هذا الأساس لابد من تحديد مفهوم المثقف: إن المثقف هو ذلك الإنسان صاحب المبادئ والقيم الذي لا ينهار أمام المغريات مهما عظمت ويبقى شامخا لا يسقط، إنه ذلك الإنسان الذي تصبح الثقافة جزءاً من كيانه وسلوكاته وافكاره وتصوراته ورؤيته للحياة بل تصبح الثقافة سلوكا يومياً وممارسة واقعية وليست كلاما يتردد في الهواء ، وليس ذلك الشخص الذي يمارس الضحالة في فكره وسلوكه ويمثل القاعدة الأساسية للفساد لأن الثقافة والاخلاق لا ينفصلان.

طانطان 24