فيصل رشدي: إنني من هذا المكان أنتمي إليه في كل زمان.



بقلم:فيصل رشدي

خطوات ببطء، نفس طويل لجسد أنهكه التعب، يسير في شارع تذكر فيه الشيء الكثير.

عيون ترى، وأذن تصيخ السمع، ينظر عله يتعرف إلى وجوه يعرفها، فقد مل هذه الأيام رؤية الأصموديين، الذين أينما وليت وجهك تجدهم؛ في المقابر يبكون مع الميت وفي حفلات الزفاف يضحكون مع فرقة الغناء، وفي المسجد تجدهم في الصف الأول، أما  في المقاهي فحديثهم يطول ويطول حتى تحسبهم أقاموا الدنيا ولم يقعدوها. ويريدون أن يدخلوا التاريخ مع أن تاريخ الطانطان معروف بين أهله، ولا أحد يمكنه أن يضيف إليه شيئا لم يكن فيه. وأهل الطانطان يعرفون بعضهم البعض  كمعرفتهم لأبنائهم.

مر كطيف من ذلك الزقاق العريض، في مساء كادت الشمس فيه أن تغرب، لكنها أبت أن تغرب. ينظر بعينين كبيرتين باحثا عنها بين تلك المنازل، اشتاق لرؤيتها، وكان دائما يضع صوت محجوبة منت الميداح صلة لتذكره بها. ينظر عله يرى من يعرف لكنه بدا غريبا لساكنة الزقاق، ينظرون إليه ولم يعلموا أنه يبحث عنها بينهم.

سنوات امتدت، كان يلقاها وكان يحبها وتحبه، كانت رسائل الغرام تذوب في ليل طانطان الساحر، كان يحبها ويهيم قلبه بها. لم يتخيل يوما أنه سيظل على هذه الحال، غريب وسط أناس لا يعرفهم.

وصل أعلى الزقاق، أخرج سيجارته، وأشعلها على نار هادئة. ظل يترقب المارة من حوله، ينظر إليهم واحدا تلو الآخر، لم يعرف أحدا منهم بل ظل يراقب بعيني نسر لعله يهتدي لوجه يعرفه، لكن نفاث السيجارة تصاعد إلى السماء تاركا رائحة الدخان منتشرة في كل مكان، فجأة أطفأ سيجارته بحذائه الأيمن.

لحظتها نظر إلى ذلك المنزل تذكر حبيبته، فتذكر على إثرها أغنية محجوبة منت الميداح" ليلة ويداعو قلبي ولساني مارعوا" بكى كثيرا وفاضت دموعه شوقا وحنينا للزمن الجميل. تذكر يوم خرج هو ومجموعة من الشابات إلى رحلة فوق هضبة ليست بالبعيدة عن ضريح الولى الصالح الشيخ محمد الأغظف، تذكر تلك الأكلة الشهية التي أعدتها تلك الفتاة، وكانت الأكلة معروفة عند أهل المنطقة باسم أكلة "مارو واللحم". تذكر حكاياتهن عن جردة سلامة الزفاطي وعن جردة دهوار و جردة عبد السلام عمارة. تذكر وجوه الشيوخ وحكايتهم عن العهد الإسباني وتاريخ المقاومة، فبكى حتى انتبه إليه أحد المارة.

فعاد أدرجه من جديد، ما أن وصل إلى أسفل الزقاق حتى عاد إلى .مكانه الأول، متذكرا ابتسامة حبيبته وجهها الناصع  وصوتها الدافئ فرسم حياة بأكملها في دقيقة مرت كطيف عابر. عندما أعاد صورتها   تلك اللحظات، تذكر أغنية محجوبة منت الميداح التي كانت تحب" أبدا يا النبع عنك رحميني" فسقط أرضا ولكنه رأى عجوزا تجاوزت الثمانين تنظر إليه بإمعان، فانتبه بسرعة وعاد إلى السير مجددا. 

تذكر أهل الطنطان في الستينات من القرن الماضي، تذكر الكرام أبناء الخيام الكبار، تذكر حفلات وأعراس وهول يسكن الوجدان. تذكر قصص الحب الممزوجة بعطر الوفاء.

وقف عند باب، فرآته امرأة أخرى لم تتجاوز الأربعين،و أهدته شربة ماء، شرب الماء على مهل، فسألها عن أهل الدار: هل هذه الدار دار فلان؟

فقالت له: رحلوا سنوات خلت إلى مدينة العيون فاشتريت منهم المنزل.

تذكر بخور تيدكت واشتاق إلى عزف صديقه الصحفي هاشم وولعه الشديد بالموسيقى الإنجليزية. 

عادت ذاكرته إلى شطحاته  وإلى خصامه مع الحافظ محلا الشواء، وهروبه من باحسين بجك بجك، وغضب كل من  ترينتا  واخناثة عليه. تذكر لحظاته مع الرفاق في مطعم بوالوقت، وضحك كثيرا وهو يتذكر أن عليه دين يجب أن يسدده لبولوقت وعلم أيضا أن الرفاق هناك يسألون عنه.

تذكر لحظات تدخينه السجائر في محل الحلاقة عند تيكوفا وحميد، فضحك كثيرا.

تذكر الناس وحبهم لبعضهم البعض، لا عنصرية ولا قبلية، فبكى كثيرا كثيرا لدى.

تذكر قصائد محمد ولد سيدي يوسف ومحمد خر ومحمد ولد محمد عالي ديابلو وحميمدي ولد لبريك وآبا الشيخ ولد أباعلي.

تذكر شريط سدوم الهادئ على جنبات لحميدية ليلا وهو ذاهب إلى الوطية لاستنشاق هواء نقي.

تذكر السجن وويلاته، وزمن الخوف،  وكرة القدم، فبكى حتى سقط مغشيا عليه متذكرا بيت الشاعر الفلسطيني  محمود درويش

" لا أستطيع لقاء الخسارة وجها لوجه

وقفت في الباب كالمتسول"

طانطان 24