كلثومة ابليح : لقمة العيش مُرّة..




بقلم ذة. كلثومة ابليح

كعادتها كل صباح، تحت شباك غرفتها ناولت ضيوف نافذتها شيئا من فتات الخبز اليابس وبعضا من الماء، فتراءى لها ضباب كثيف يغطي أسطح أحياء منطقة "الزاويت" التابعة لأكلو- تزنيت، عاصفة خفيفة تجر ذيلا من أزبال الحي فتحاصرها بين أركان إحدى المنازل..كأنها ستمطر..اللهم صيبا نافعا : سبّحت وهلّلت فحمدت الرحمان في سرّها على عطية الصحة وصيام التاسوعاء، قبل أن تغلق النافذة بدا لها في أسفل البناية بعض أبناء الجيران يتجاذبان أطراف الحديث كأنهما في شجار حول مسدس مائي، إذ تابعت حوارهما الطفولي بابتسامة فأحدهما سيلعب دور الشرطي والآخر دور اللص، فجأة تناهى لسمعها  صراخ حاد، فنزلت السلالم التؤدة، إنه صراخ أخيها الصغير يبغي مسدسا مائيا، أسكتت عناده وامتص حضنها بكاءه، وعدته قبل حلول الظلام ستأخذه ليشتري هدية العاشوراء.

 "غزلان" الشابة اليافعة كانت شخصا طموحا يؤمن بتحقيق الأحلام مهما كانت صعبة، الدراسة والعمل وحلم آخر تراه جميلا يلوح في الأفق سيجمع بين العمل والدراسة، فقبل ثلاث سنوات تحقق نفس حلمها لشقيقة إحدى صديقاتها تقطن بأعلى الحي، اشتغلت ودرست وأصبحت تتحدث اللغة الإنجليزية باحتراف، حال هذه اللغة عند "غزلان"جيد جدا على اعتبار علاماتها الممتازة فضلا عن قدرتها التكلم بطلاقة غير اعتيادية، فهي ترى نفسها مشروع مواطنة مغربية ناجحة بأمريكا، حلم تؤمن بثقة عالية أنه سيبدد معالم ضيق حال عوزها وسيطوّر من قدراتها المهنية والدراسية.
جلست تقلّب في ملل ألبوما قديما لصور العائلة، تأمّلت وهي تبتسم حتى بلغ البكاء حتف عينيها، صورة لها وهي تمشط شعر جدتها الذهبي بصبغة الحناء، اشتاقت لها حين كانت ترضى عنها في الدنيا والآخرة (أكم إيسربح سيدي ربي أيللي غ دونيت أوولا ليخرت).
مرّت دقائق من السكون، حتى قاطعت رنة هاتف شرودها بين الصور، كانت صديقة الحي والدراسة، إذ كانتا على موعد لدفع القسط الأول لبائع الإلكترونيات (قصد شراء لوحة إلكترونية)، وقتذاك كانت الأخت الكبرى لغزلان تعدّ مايلزم لفطور ساعة الغروب عند العودة مباشرة من الضيعة الزراعية.
الضيعة التي تعمل فيها غزلان وأختها بشكل يومي وبدوام كلّي توجد على بعد مائة كلم من منطقتها، غزلان تشتغل لأجل توفير حاجياتها الشخصية وإتمام ما وفرته لشراء "الطابلت".
لم تكن تتوقع أن يكون مصير عطلتها وفترات الحجر الصحي داخل عمل شاق، وراء أسوار ضائعة، لم تتخيل يوما أن تغرس يديها وسط التراب لجني الخضر والفواكه، إذ لم يكُ يضنيها عدد ساعات العمل الطويلة بقدر ما يرهقها قصر ذات اليد.
كانت متأكدة بأن ذلك مجرد مسألة وقت فقط وسيمضي، لقد وفّرت أخيرا النصف الثاني لثمن "الطابلت" وبعض الأغراض الشخصية التي تحتاجها كأي فتاة بعمرها، كانت تحس بحماس شديد لأنها استطاعت الإعتماد على توفير مدخول لنفسها ولو كان زهيدا، لايهم.
أصبحت غزلان ضحية لقمة عيش مرّة، رحلت بآدمية يافعة، رحلت في عربة تخلو من شروط السلامة والصحة، أجر زهيد وتعنيف واحتقار،  فكم من العاملات مرّغت كرامتهن لأجل لقمة عيشٍ سائغة بين سندان التحرش ومطرقة النخاسة.
الضحية ليست كغيرها من الضحايا، ظروفها جعلتها تقطع عشرات الكيلومترات يوميا على متن عربة ضيقة تتكدس فيها أجساد ثكالى، تغرد خارج سرب الإجراءات الوقائية وخرقٍ سافر للطوارئ الصحية دون أن تستوقفهم رجال الأمن والسلطات.
إن الظروف النفسية التي تعيشها العاملات داخل أسوار الضيعات أكثر بكثير من الظروف الاجتماعية خارجها (مظاهر العنف تكرّست أكثر خلال فترة الحجر الصحي (من طرف الإخوة الذكور والأزواج)). باتت حاجتهن للحماية الذاتية والقانونية ضرورة ملحة للحصول على ظروف عمل لائق :
التوفر على عقد عمل- الحق في الضمان الاجتماعي والتأمين- توفير وسيلة نقل وتنقل تليق بآدمية العاملات- تقليص عدد ساعات العمل في ظروف ملائمة- الحماية القانونية من كل أشكال التمييز والعنف والتحرش ثم الإغتصاب، ما يجعل العاملات تخشى الدفاع عن أنفسهن خوفا من الفضيحة.

اختزلت غزلان معاناة النساء العاملات، مآسيهن تتكرر وستتكرر في غياب مراقبة السلطات الأمنية والدركية لوقف نزيف حرب الطرق اليومية، فئات تعاني الفقد في أجزاء من أجسادها دون تعويض مادي يٌذكر، أرواح أُزهِقت كانت تحمل هموم أطفال أبرياء لمصير مجهول.
أحلام أُجْهضت، أحلامٌ كدحت لأجل نفسها أولا مدة عام كامل، تحملت فيها غزلان إهانات لا تناسب وكرامتها الآدمية، تحملت فيها حرارة البيوت المغطاة ورائحة التراب والمبيد، تحملت وسيلة نقل معدة فقط لنقل البهيمة، للأسف تبخر حلم أمريكا، اندثر ذاك الحماس في الحصول على اللوحة الإلكترونية، ودّعت جدتها بين ذكريات ألبوم العائلة، أودعت صندوق الأماني الصغيرة لأخيها ولضيوف ربّها على النافذة في ظلمة الغروب.