النعمة بوشامة : تجليات حضور المقدس في الثقافة الشعبية الصحراوية


مقدمة:
يأتي مقالنا هذا لمقاربة موضوع "المقدس في الثقافة الشعبية الصحراوية" من خلال التطرق للأولياء والصلحاء والأماكن والأشياء ودلالاتهم عند المجتمع الصحراوي، وما أفرزته من قيم الولاية والصلاح والكرامات وغيرها من المفاهيم والقيم المرتبطة بمعجم التصوف الديني الشعبي.
وبذلك سيحاول هذا المقال -قدر المستطاع- إستجلاء بعض جوانب هذا الشق الصوفي المشكل للذهنية والإعتقادية لدى أفراد المجتمع الصحراوي، ومحاولة فهم طبيعة حضور المقدس الديني، بما هو حضور رمزي وشعائري طقوسي في نفس الآن، وكذا استنطاق تلك العلاقة القائمة بن معطى الماء وعامل قرب الصلحاء أو بعدهم عن منابعه والتصورات إعتقادية خاصة المرتبطة بذلك، والتي تبلورت في شكل منظومة قيم محلية، وذلك من أجل الإجابة عن سؤالين محوريين هما:
 ما هي أبرز تجليات حضور المقدس في الثقافة الشعبية الصحراوية ؟ وما هي أهم القيم المرتبطة والمشكلة للمقدس في هذه الثقافة المحلية ؟
وسنحاول الإجابة عن الأسئلة المطروحة من خلال التطرق للأهم الصلحاء وأماكنيتهم بالمنطقة المدروسة، وكذا المجال الاجتماعي من خلال تحديد طبيعة التعاطي الاجتماعي مع المقدس المجسد في الصلاح والصلحاء، وهذا بعد أن نحدد الإطار المفاهيمي لموضوع الدراسة، وفي الأخير سوف نحاول الوقوف على "الراهن" في ظاهرة المقدس بالمجال والمجتمع المدروسين.
وتجدر الإشارة، أنه وأمام شح الدراسات التي تناولت موضوع المقدس بمنطقة الدراسة، أو حتى دراسة مواضيع وظواهر قريبة من هذا الموضوع، فقد اعتمدنا على تقنيات وأدوات للبحث، من قبيل الملاحظة بالمشاركة، والمقابلة الشفوية، وتعد الأخيرة من أهم مصادرنا، خاصة وأن ثقافة مجتمع الدراسة هي في الأغلب ثقافة شفوية.

أولا: تحديدات مفاهيمية:
يعتمد هذا المقال على جهاز مفاهيمي، بارتكازه على مفاهيم أساسية كبرى، سنحاول تعريفها، من خلال تحديد حدودها اللغوية والاصطلاحية، وتفكيكها وفهم دلالاتها، قصد التأطير المفاهيمي للظاهرة المدروسة، وحصر الحقل الدلالي الذي سنعالج من خلاله الإشكال المطروح في مقالنا هذا، وفق بناء نظري ونسقي.
     إن المفاهيم الأساسية في هذه الدراسة تثير جدلا بالغا في صفوف المشتغلين عليها، وهو جدل لم يحسم بعد يأتي في صور جديدة يفرضها حضور تلك المفاهيم عبر سيرورة حياة الإنسان، بحيث لا يمكن فهم أي منها إلا من خلال علاقته بالمفاهيم الأخرى المناقضة أو المجاورة لها (مقدس/مدنس، مجال/مكان/حيز، موضع..)، وفق هذا الطرح سنشرع في تحديد مفهوم المقدس من خلال بعض المعاجم والدراسات التي تناولته لنعرج على تحديد نقيضه ولو على سبيل الإشارة، لنخلص إلى تحديد مفهومي البركة والصلحاء كأحد المفاهيم الحاضرة بقوة في الحقل الدلالي لموضوع المقدس، فما المقدس ياترى ؟ وماهي أهم المفاهيم المرتبطة به؟
   التقديس في لسان العرب، هو "تنزيه الله عز وجل، ويقصد به أيضا التطهير والتبريك. وفي التهذيب، القدس القدوس المقدس. ويقال القدوس فعول من القدس وهو الطهارة وقال الأزهري: "يجيء في صفات الله تعالى منبر القدوس وهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، وقدوس بفتح القاف المبارك، والقدس البركة. وقدس بفتح القاف والدال، فموضع بالشام والقدس، وتقديس بمعنى تطهر. وتقدس لك بمعنى نطهر أنفسنا لك. ويقصد بالأرض المقدسة المطهرة المباركة. كما يقصد بها الشام. أما روح القدس فهو جبريل عليه السلام ".
وينبئنا معجم "علم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا" بأن المقدس "لايكتنفه الغموض والتناقض في دلالته. فهو ما لايدنس ولا يعتدى على حرمته لما له من إجلال وتعظيم. كما يعني ماهو مكرس ومنذور به. وفي نظره المقدس بالنسبة للمؤمن لا يكون إلا في الإله وله ولكتبه".
إن مفهوم المقدس يتجاوز مستوى الجانب الميتافيزقي والغيبي نحو أمور مادية ملموسة تضفي عليها الجماعات البشرية طابعا من التبجيل والقداسة بل وتنسج حولها الأساطير كما هو الشأن بالنسبة "للشجر و النبع والبئر..".
    سنحاول أن نتطرق إلى نقيض مفهوم المقدس وهو ما اتفق العديد على نعته بالمدنس وذلك على وجه الإشارة فقط، فقد جاء في معجم "لسان العرب" أن المدنس "من الدنس في الثياب، أي لطخ الوسخ، ونحوه حتى في الأخلاق، والجمع أدناس. وقد دنس يدنس دنسا، فهو دنس، أي توسخ.
     أما في القاموس الأنتروبولوجي، فالمدنس يقصد به "كل شيء دنيوي خارج عن نطاق الدين، وكل سلوك لايمت إلى الطقوس بصلة".
     إن التعاريف التي حظي بها مفهوم المدنس، تحصر هذا الأخير في كل ما هو مكروه، في حين أن المدنس لا يكون بالضرورة كل ما هو مشكوك في نظافته، أو حتى ما هو مكروه، ف "الكحول يمكنها أن تكون طاهرة كميائيا، لكنها تظل مع ذلك محرمة ومدنسة من الوجهة الدينية، كذلك الحجاج الذين يغطيهم الغبار وأحيانا القاذورات، يكونون في حالة إحرام، حيث يسمح لهم بأداء الشعائر الأكثر قداسة. وإن حيوانا للذبح مهما كان نظيفا، يعتبر مدنسا، عندما لا يجري ذبحه حسب تعاليم الشريعة الدينية، لكنه يعد صالحا للاستهلاك، ولو كان وسخا مادام ذبحه قد جرى حسب ما يأمر الدين".


البركـــــــــة :
    مفهوم البركة كذلك هو من المفاهيم الرئيسية التي وجب إدراجها ضمن هذا المقال، وهو مفهوم ينهل من معين المجال الصوفي على وجه الخصوص، وما كان إدراجنا له من باب الصدفة بمكان وإنما اعتبارا لكونه مفهوما حاضرا بقوة ضمن المفاهيم المؤطرة لموضوع  المقدس.
    يجيء مفهوم "البركة" في لسان العرب على أنها ذلك "النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء للإنسان أو غيره بالبركة، يقال : بركت عليه تبريكا أي قلت له بارك الله عليك. وبارك الله الشيء وبارك فيه وعليه: وضع فيه البركة. وطعام بريك كأنه مبارك. وقال الفراء في قوله رحمة الله وبركاته عليكم، قال : البركات السعادة،.. وتبركت به أي تيمنت به.
والبروك من النساء: التي تتزوج ولها ولد كبير بالغ".
     ويضيف "ابن منظور" أنها ذلك "النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية والسعادة وتبوث الخير الإلهي في الشيء ودوامه، والنصارى يستعملونها بمعنى العشر تفاؤلا، وكلمة البركة عند النصارى آية يصرف بها القسيس الجمع في خاتمة الصلوات. وأصل البركة التباث مقترنا بالنماء ومنه مبروك الإبل وبراكاء القتال.
الصلحاء: صلحاء (إسم) الجمع (صالحون وصلحة وصلاح وصوالح)، الصالح: المستقيم المؤدي لواجباته، الصلاح: الإستقامة، والسلامة من العيب.
يقدم الأنثروبولوجي الفرنسي "إدموند دوتي" من خلال كتابه "الصلحاء: مدونات عن الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر" أهم ملامح ومميزات الصلحاء، مقدما الصورة العامة المتشكلة عنهم في المتخيل الجمعي المغربي (الدين والتصوف خاصة)، فتريفه العام للصلحاء والتبرك بحسبه يتجاوز كونه "مجرد طقس إلى كونه ظاهرة مجتمعية تستحق أن تدرس بمنهجية جديدة قادرة على إستكناه البنيات العميقة (الدينية في الغالب) التي صنعت أهم الأحداث السياسية".
ثانيا: الصلحاء وأماكنيتهم بالصحراء.
تعد ثلاثية الصلحاء والماء وتدبير المجال، عناصر مركزية، تجتمع هي وجوانب ثقافية أخرى، لتشكل البنى الذهنية والإعتقادية للمجتمع الصحراوي، وهو ما سنحاول التطرق إليه من خلال استجلاء هذه الجوانبالذهنية الإعتقادية ذات الطابع القيمي والرمزي، وذلك من منطلق المكانة الخاصة التي تضفيها هذه الجوانب على الفئات الإجتماعية المتصفة بها )أهل لكتوب، الزوايا، الطلبة، الأولياء..(، وذلك من خلال مقاربة موضوع الصلحاء والأمكنة لفهم حضور المقدس من خلالها، عبر إستحضار أبرز الطقوس الدينية التقليدية والممارسات الإعتقادية المقامة.
من خلال معاينة أولية للتحضيرات الأولى التي تشهدها عملية إقامة الإحتفالات الموسمية حول بنايات الزوايا والمزارات الدينية لصلحاء بالمنطقة، ومختلف الطقوس الموظفة أثناء هذه الزيارة، تتبلور متون نصية شفهية موروثة عن الشيخ والمريدين، نجدها حاضرة بقوة أثناء إقامة مراسيم هذه الزوايا الدينية.
إن عملية زيارة الصلحاء تتم في ظل أجواء مشبعة بأشكال التكافل والتضامن الإجتماعي رغم تراجعها الملحوظ اليوم، بفعل حجم التحولات الإجتماعية والثقافية الراهنة التي عرفها المجتمع الصحراوي، وبالرغم من حدة كل هذه التحولات فإن عامل التغير الإجتماعي لم يحسم أو يتجاوز بعد بعض التصورات والمعتقدات الدينية المرتبطة بالموروث الثقافي، حيث لا يزال هناك علاقة إحترام للمجتمع المحلي مع كل ما له صلة بأولياءه وصلحاءه حتى بعد مماتهم، حيث يبقى الولي" ملاذ ومحام يتقرب إليه ويتخد حليفا ونصيرا، كي يتوسط لدى العناية الإلاهية. الولي هو ولي الله، ومن خلال التقرب منه تتحقق الحاجات وتعم الرحمة الإلاهية".
وبذلك نجد أن مكانة الصلحاء في الثقافة الشعبية الصحراوية محفوظة ومهابة ومصانة إنطلاقا من قوة حضور الأشكال التعبيرية والثقافية والتدبيرية الموجهة بصددهم، حيث يتم التعبير وإن بشكل مسكوت عنه اليوم عن المباركة والرضى عن هذه الطقوس الممارسة، في رغبة مضمرة ومعبر عنها أحيانا توحي إلى السعي لضمان إستمرار هذا النوع من التقديس والإحترام للموروث الديني الشعبي لدى المجتمع الصحراوي.
إننا أمام مجتمع لا يتوانى أفراده وفاعليه عن محاولة إعادة إنتاج القيم التقليدية وإن بشكل ملتف تحت مسميات ومناسبات من قبيل  »صلة الأرحام بين أبناء القبيلة الواحدة  « و  »تجديد الزيارة والسند للجد الأول والمشترك للقبيلة «  و »خلق ملتقيات سنوية موسمية «، ولا ضير في ذلك ونحن نجد الأنثروبولوجي الفرنسي "إدموند دوتي" يطلعنا بإشارة مفادها أن إنطلاق الصلحاء "كما يزعم بعضهم من الساقية الحمراء، أي من عمق المغرب الأقصى لينتشروا في كل شمال إفريقيا. قد شكلوا أرومة من الصلحاء وأسسوا أسرا بل وقبائل..".
إن العدد الهائل لأسماء ومزارات الصلحاء بمنطقة الجنوب المغربي بحيث لا تكاد تخلو شعابها أو جبالها من تواجد المزارات بشكل ملفت للإنتباه، يؤشر على مدى إيلاء الإهتمام من قبل السكان لجانب الولاية والصلاح من قبل أفراد المجتمع المحلي، بالإضافة إلى حجم المعرفة العميقة والمفصلة بأسماء الصلحاء والصالحات والروايات التي نسجت حولهم وكذا قدرتهم العالية على تقديم إحصاء وتوطين أماكن تواجدهم، مما يفسر العلاقة الوطيدة بين الصلحاء والمجتمع الصحراوي وهو ما عبر عنه كهل من أعيان المنطقة بالقول "ما خالك عربي امعدل ألثام ما يزور الصلاح"، أي أنه أغلب كهول المنطقة يزورون صلحاءهم تيمنا بهم.
ثالثا: المجتمع المحلي والتعاطي الاجتماعي مع الصلحاء.
بخصوص مسالة طبيعة تعاطي الجنسين مع موضوع الولاية والصلاح بهذه المنطقة، نجد أن المرأة قد مثلت أدوارا محورية خاصة في المرحلة الترحالية، أفرزها طبيعة المجال البدوي الذي فرض نمطا من العيش قائم على الظعن والتنقل شبه الدائم، غير أن مستوى تعاطي الجنسين بقي متساويا مع الصلحاء خاصة فئة الكهول من الطرفين، حيث نجد النساء خلال عملية إحياء ملتقى "لمعروف" أو "الزيارة" المقامة حول ولي أو جد لأحد أفراد القبائل الصحراوية بأعمال موكول لها إعدادها من قبيل إعداد وطهي طعام الضيوف ومشاركة الرجال في بناء الخيام وتحضير أثاثها الداخلي، بحيث يتم عزل خيام النساء عن خيام الرجال بمسافة قصيرة جدا، ليتم إحياء "طقس –الزيارة- الذي تعرفه الكثير من المجتمعات المغاربية بل والإسلامية، حيث يتم زيارة قبور الأولياء والصلحاء والتبرك بها والتقرب لها بالأضحيات والعطايا..".
أما الرجال فيشرعون في فتح حلقات صوفية يبدؤونها بختم القرآن الكريم و يختمونها بإقامة أدعية وأشعار وأذكار بجنب الولي، وبذلك ف"إنه ليس للمرأة وليس للرجل تاريخان منفصلان، فهما صانعا تاريخ مشترك، وتاريخ المرأة لا ينفصل عن تاريخها الإجتماعي المشترك بينها وبين شريكها الدائم".
إن أبرز العوامل التي سهلت لصلحاء منطقة الجنوب المغربي (الولي سيد أحمد الركيبي، الولي سيد أحمد العروسي، الشيخ ماء العينين، الشيخ محمد لغظف، الشيخ عبداتي، الشيخ إيعزا ويهدا..( عملية الإستقرار بالمنطقة، عوامل ذاتية محصورة في شخص هؤلاء الصلحاء وأخرى وأخرى موضوعية تتعلق بالواقع الإجتماعي والثقافي الذي كانت عليه المنطقة إبان فترة قدومهم، ونجمل العوامل الذاتية في نسبهم الشريف حيث أضفى هذا النسب معاني الورع والزهد عليهم، أضف إلى هذا حملهم لكتاب الله وإضطلاعهم في نشر تعاليم سنة النبي محمد صل الله عليه وسلم، وهي معطيات إجتمعت لتؤسس حولهم مفهوم البركة والكرامات كعطية ربانية لأولياء الله "تعرض الجاحد والمتمرد إلى الإفلاس في ممتلكاته وآماله في الخلاص"، عمقت من معاني الإيمان بهم من قبل مريديهم من مختلف القبائل الصحراوية، حتى يتسنى لهم النهل من معين هذه الحضوة الربانية.
أما العوامل الموضوعية فنجملها في كون هذا المجال الذي لاذوا صوبه مناسبا لتحقيق الخلوة الصوفية والعيش ضمن صحراءه رغم وعورة المناخ والتضاريس، حيث نلاحظ اليوم أن أماكن دفنهم قاسية المناخ وصعبة التضاريس )صلحاء جبال الواركزيز، صلحاء جبال زيني، صلحاء جبال درعة السفلى..(.
لقد شكل حمل كتاب الله وسنة نبيه وفق شرع المذهب المالكي وسلة ناجعة في تمكن استقرارهؤلاء الصلحاء ضمن مجال درعة السفلى والساقية الحمراء حيث "يهدف الفقهاء دائما إلى فرض نموذجهم الديني المتمثل في الإلتزام بالكتاب والسنة أي الإسلام المالكي السني المحافظ".
إن هؤلاء الصلحاء بالمجال المدروس لم يمتهنوا أو يتكسبوا من مكانتهم الدينية أو محاولة إستغلالها ماديا، بل كانت القبائل الصحراوية تعبيرا عن توقيرها واحترامها لمكانة هذه الفئة الإجتماعية تحاول إهداءها ما إستطاعت، أو التيمن بها من خلال إطلاق أسماء أبناءها عليهم والرضاعة مع أبنائهم سعيا وراء إستقامة الأبناء والرفع من شأن الصلحاء وتعزيز مكانتهم الإجتماعية، ف"شرفاء الصحراء وبلاد شنقيط لا يمارسون إستقبالا دائما للزيارات والهدايا وإستثمار الشرف لجمع المال من عند الناس.. بل كان الشرف حاميا إلى جانب عوامل أخرى )الحرابة( لأموالهم وقوافلهم التجارية..".
لقد بلغ إحترام هؤلاء الصلحاء حد عدم قطع الأشجار المتواجدة بالقرب منهم، وعدم أخد أي أواني أو خيام متروكة بجنب مزاراتهم خوفا من لعنة "التزبوا" على الرغم من كونهم في عداد الموتى، وهذا ما يحيلنا في هذا الصدد إلى السؤال عن الهالة المقدسة الموسومة بخصوص الجمادات والأماكن بالمنطقة المدروسة؟
رابعا: المقدس وعلاقته بالماء ومنابعه:
إن للماء والشجر والمتاع المتواجدين بجنب الصلحاء في الثقافة الشعبية لدى أفراد المجتمع الصحراوي حرمة لا ينبغي مساسها أو التعدي عليها، ف"الربط بين قبور الصلحاء وعيون الماء والأشجار مسألة شائعة في إفريقيا الشمالية، وعندما يحكي الأهالي أن زيتونة ظهرت فجأة قرب قبر صالحة.. نكون متأكدين أن العكس هو الذي حصل، وأن زيارة الصالحة هي التي جلبت معها الإهتمام بالشجرة" ، وبذلك نجد أنه ضمن معتقدات هذا المجتمع منع قطع الأشجار المتواجدة بجنب الصلحاء عنوة للإستفادة الشخصية، أو هدم الآبار أو إفساد ماءها أو نهب المتاع المتروك بمحاذاة الصلحاء )خيام الرحل، حطب طهي الطعام، أواني الطبخ..( هو في حد ذاته مساس مباشر بقدسية وحرمات هؤلاء الصلحاء ومحاولة تدنيس مقامهم، لدرجة أن أفراد القبائل الصحراوية كانوا يضعون ما ثقل عليهم من متاع إبان فترات الترحال بالقرب من الصلحاء ومزاراتهم، لعلمهم المسبق بإستحالة المساس به، وهو ما يفسر حالة الإعتقاد لدى كهول المنطقة بإستمرارية عناصر الولاية والصلاح من خلال ما يعبرون عنه من مفاهيم تنهل من معجم المقدس التقليدي لدى مجتمع هذه المنطقة )التزبوا، النده، المعروف، الزيارة، أشياخنا..(.
كما توجد عدة أماكن بهذا بمنطقة الجنوب المغربي تحمل طابعا مبجلا له حرمته وتصاغ حوله قصص تاريخية تنهل من معين الكرامات وبركات الأولياء، ف"كل راغب أو طامح إلى الصلاح يختلي تحت شجرة ما، أو في مغارة او كوخ مهجور، فهنا يكون الإنعزال والهدوء حيث يتفرغ للصلاة والصوم"، وهو ما نعاينه من خلال أماكن خاصة بهؤلاء الصلحاء ك"الخلوة" الخاصة بمكان تعبد الولي الصالح "سيد أحمد الركيبي"، و"الطبيلة" وهي كذلك مكان خاص بالولي "سيد أحمد العروصي"، و "واد أمة فاطمة" المسمى بهذه الولية، و"أركانات أخزان" و"كرارة الحس" بمنطقة الحمادة ضواحي مدينة آسا الزاك، وغيرها من المناطق والأماكن المعروفة للأولياء.
إن هذا الإرتباط الوثيق لمجتمع الدراسة مع صلحائه يطرح سؤال مدى إعتقادهم بهم في تحقيق المآرب الدنيوية، وهو ما نجد جوابا عنه من خلال إعتبارهم إبان زمن البداوة وفي ظل غياب أي وسائل حديثة للتشافي الملجأ الأول لعلاج وفك وعلاج الحالات المرضية المستعصية للأفراد بل وحتى للمواشي والأنعام، مما نتج عنه بلورة مجموعة من القيم الاخلاقية والثقافية، التي تجد مبررا ومصوغا لها من منطلق تحصيل الوقاية المسبقة من الأمراض وضبط سلوكات الأفراد لتفادي أي أخطار من شأنها أن تلحق أضرارا صحية أو نفسية بالمجتمع المحلي، حيث نجد أنه تحت وصاية موضوع "المحالي" يتم تحريم مجموعة من السلوكات والأفعال من قبيل "أمحالي تكيل عاكب العصر أو المغرب" أي يمنع القيلولة بعد صلاة العصر أو المغرب، تفاديا للمس الشيطاني أو تعكير صفو مزاج الشخص بعد إستيقاضه من نعاس ليس في وقت الراحة المخصصة للنوم الطبيعي.
ونجد كذلك "أمحالي قطع شجر التيدرة" أي يكره قطع الشجر المتواجد بجنب مراقد الصلحاء، و"أمحالي تكطع شجر المعطن" أي يكره قطع الشجر المتواجد بالقرب من آبار المياه المخصصة لشرب الناس ودوابها، و"أمحالي تزكي فالحاسي" أي يكره كذلك أن تقوم بالصراخ داخل البئر، في إشارة للمكانة التي يحملها البئر لدى المجتمع المحلي لدرجة إمتعاضهم حتى من مجرد الصراخ داخله، معتبرين من أقدم على ذلك بلعنة خفية قد تلحق به، و"أمحالي تخلي شي من الطعام مكهي" أي يكره ترك الطعام أو الشراب دون غطاء يحفظه، و"أمحالي تجرح نهار العيد" أي لا يجوز أن يتم تقطيع لحم العيد في نفس اليوم الذي ذبحت فيه الأضحية، و"أمحالي مغرج أتاي ينصد شور باب الخيمة" بمعنى يكره ترك إبريق الماء الخاص بإعداد الشاي متجها صوب فتحة باب الخيمة، و"أمحالي تتخطى حد راكد" أي يمنع تخطي جسد شخص نائم، و"امحالي تكطع الأضفار وتزركهم متكانيين" بمعنى يكره رمي أظافر الشخص دون دفنهم أو رميهم بعيدا عن متناول الناس.
إننا بصدد قواعد توجه سلوكات الأفراد وتحدد طبيعة المعاملات الإجتماعية تستمد شرعيتها من عمق التجربة الميدانية باتت بمثابة قيم أخلاقية إكتسبت قبولا ومباركة مجتمعية، وهنا نجد أن هذه القيم المنبثقة من رحم التجربة اليومية المعيشة عرفت تطورا ساير التحولات الإجتماعية التي عرفها المجتمع الصحراوي، فبتنا نجد توجيهات راهنة وجديدة ضمن حقل المكروهات الواجب تجنبها أو وفق حقل ثقافة "المحالي" كالقول مثلا "أمحالي تلعب الكرة داخل البيت" وهي توجيه للأطفال لمنعهم من العبث بمحتويات وأثاث المنزل.
لقد شكلت المزارات الدينية الخاصة بالصلحاء ونقط تواجد الماء بجنبها دورا مفصليا بالنسبة للقبائل الصحراوية الظاعنة، حيث ساهموا بأدوار دينية وإجتماعية وثقافية وحتى سياسية... على يد مشايخ التصوف والعلم، فقلما نجد منبعا مهما للمياه لا يوجد بجواره صالحا من الصلحاء، وهذا وإن كان له علاقة بجانب الضرورة الدينية المتمثلة في وجوب حضور المياه قبل عملية دفن الموتى، فإنه كذلك من أجل أن يبقى الولي الصالح مزارا وحاضرا في الذاكرة الجماعية للناس، وكذا عاملا لخلق الإستقرار وعدم النزاع على هذا المنبع بين بطون القبائل لقلة الماء، وذلك إحتراما للولي الدفين بقرب منابع الماء، لذلك فقرينة حضور الصلحاء بجنب منابع الماء تكاد تكون شاملة للمنطقة المدروسة بلغت حد إشباع المتخيل الشعبي المحلي بأن هذا التواجد بالقرب من منابع الماء عامل أساسي لتفادي غورها وجفافها.
خامسا: مكانة الصلحاء في ظل التحولات الراهنة:
على الرغم بما يحيط موضوع المقدس الديني في الثقافة الشعبية الصحراوية من مستجدات وظواهر إجتماعية وثقافية جديدة أفرزتها التحولات الكبرى التي عرفتها المنطقة خاصة مع بروز حركات دينية سلفية أفضت إلى إنتقال تدبير الحياة إلى مؤسسات جديدة مثل المدارس والمساجد.. فإن الصلاح والولاية لازالا حاضرين بقوة حضور مؤسسات المجتمع التقليدية من قبيل القبيلة والزاوية والمواسم الدينية، فالصلاح والولاية من بين مربعات الصمود الحالي للقبيلة رغم التحولات الإجتماعية والثقافية الفاصلة التي باتت تعرفها المنطقة في المرحلة الراهنة.
وهي ممارسات يجابهها الشباب بالمنطقة اليوم بالرفض والإستنكار بل وحد الإستهجان معتبرين المواسم الدينية المقامة حاليا ما هي إلا أدوات لتحقيق المآرب والمصالح الشخصية، من خلال ما أضحت تعود به من أرباح على القيمين عليها وذلك عبر توظيف وإستغلال إسم الولي المقام بجوار هذه المواسم السنوية.
ويمثل الدعم الذي تقدمه الدولة لهذه المزارات الدينية لتوطيد مشروعيتها الدينية، وصل حد إنشاء جمعيات جمعوية مدنية تقوم بالإشراف على بعض المواسم المحلية وتكون كمخاطب رسمي أمام الجهات الرسمية، وهنا يطفو معطى الزواج  بين الآليات المدنية والجوهر التقليدي المتمثل في المقدس الشعبي الديني. كما تطفو عمليو اعادة انتاج البنى التقليدية لنفسها وفق مكتنزمات جديدة تعتمد الحديث لتجديد التقليدي.

خاتمة:
ختاما، جسد الصلحاء ومزاراتهم وأقبيتهم والمواسم المقامة حولهم وكذا قداسة بعض الأماكن والأشياء بمنطقة درعة السفلى والساقية الحمراء رأسمالا رمزيا قائم الذات، أفضى إلى بروز ممارسات إجتماعية تكافلية طغت على بنيات المجتمع الصحراوي خلال مرحلة البداوة، وإستمرت معه حتى بعد دخوله لمرحلة الإقامة والإستقرار وإن بصيغ مستحدثة.
وبذلك فمظاهر حضور المقدس من خلال تجلياته التي حاولنا مقاربتها في شخص الولاية والصلاح والأمكنة قد ساهمت في تشكل طقوس ومتون شعبية، لتحمل قيما دينية وأخلاقية لاتزال تجلياتها حاضرة إلى اليوم، وإن تقلصت مع الجيل الثالث من الفئات الشابة الصاعدة، إلا أنه يتم إعادة إنتاجها وإن بصيغ غير مباشرة عبر مصوغات قبلية ورهانات سياسية، ليبقى بذلك إستمرار تأثير الرأسمال الرمزي للصلحاء بالمنطقة، وهو المعطى الذي يفرض اليوم على كل الفاعلين المحليين إستثماره إيجابا لصالح التنمية الثقافية والإقتصادية المنشودة بالمنطقة.

  النعمة بوشامة : باحث في سلك الدكتوراه تخصص علم الإجتماع جامعة ابن طفيل كلية الآداب والعلوم الانسانية بمدينة القنيطرة .